من فضلك يا أخي تفكر في نفسك { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات 21]، فتفكر كيف أن الله تعالى خلقك من ماء مهين، ومن نطفة أمشاج نبتليه، ولقد تكرر ذكر النطفة في القرآن الكريم لا من أجل أن يسمع لفظه ويترك التفكر في معناه.
فانظر أخي الكريم إلى النطفة وهي قطرة من الماء قذره لو تركت ساعة لفسدت، فانظر كيف أخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب؟ وكيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم؟ وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلا الاجتماع؟ وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع؟ وكيف استجلب البويضة من أعماق المعروق؟
من فضلك يا أخي تفكر كيف خلق الله المولود من النطفة وسقاه وغذاه حتى نما وربا وكبر؟ وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة، كيف جعلها علقة حمراء؟ ثم كيف جعلها الله مضغة؟ ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متساوية متشابهة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم؟ ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق: الأعضاء الظاهرة كالرأس، والسمع، والبصر، والأنف، والفم، وسائر المنافذ التي شقها الله بحكمته؟ بم تفكر كيف قد الله اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع، وقسم الأصابع بالأنامل؟ ثم تفكر كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثالة والأمعاء كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص.
ومن فضلك يا أخي تفكر كيف أن الله تعالى قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخرى، فركب العين من طبقات، لكل طبقة وصف مخصوص، وعيشة مخصوصة لو فقدت طبقة منها، أو زالت صفة منها لتعطلت العين عن الإبصار؟
ومن فضلك يا أخي تفكر كيف خلق الله العظام من نطفة رقيقة، ثم جعلها قواماً للبدن وعماداً له، ثم قدرها بمقادير مختلفة، وأشكال مختلفة، فمنه صغير وكبير وطويل ومستدير ومجوف ومُصمت وعريض ودقيق؟
ومن فضلك يا أخي تفكر في صنع الله الذي أتقن كل شئ، كيف أنه سبحانه وتعالى لم يجعل عظامك عظماً واحداً، بل جعله عظاماً كثيرة بينها مفاصل حتى يتيسر بها الحركة، وقدر شكل كل واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة بها، ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتاد أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له، ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الآخر حُفراً غائصة فيه موافقه لشكل الزوائد لتدخل فيها وتنطبق عليها، فصار العبد إن أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر عليه ذلك.
ولو أننا استقصينا جميع ما في الإنسان من خلق لطال بنا المقام، وما أردنا إلا لفت الأنظار فقط إلى ما في الإنسان من عجائب صنعها الصانع بحكمة وإتقان، فتفكر فيها أخي المسلم، حتى تزداد من الله تقريباً وتزداد له حباً، فيتحرك إيمانك، وتسمو أخلاقك، وتنضبط على شرع الله حركاتك وسكناتك.
من فضلك يا أخي تفكر كيف أن الله تعالى بعد أن صورك وجملك وحسنك سوف يعيدك بعد كل ذلك إلى أصلك فتصير حماً مسنوناً، وعظاماً نخرة، وبعد ذلك تصير تراباً كما كنت.
فتدبر حالك، واستفد من رحلتك في الحياة، وخذ من حياتك لموتك ومن شبابك لهرمك، ومن غناك لفقرك، ومن فراغك لشغلك، وعُد نفسك من أهل القبور.
نفعنا الله وإياك بالفكر، وكملنا جميعاً بالعقل، وهدانا إلى صراطه المستقيم.
وإلى اللقاء مع حلقة قادمة،