منتدى التحكم الآلي والإلكترونيات
مرحبا بك عزيزي الزائر يشرفنا أن تقوم بالدخول إذا كنت من الأعضاء أو التسجيل إذا كنت زائرا ويمكنك إنشاء حسابك ببساطة ويمكنك التفعيل عن طريق البريد أو الانتظار قليلا حتى تقوم الإدارة بالتفعيل
منتدى التحكم الآلي والإلكترونيات
مرحبا بك عزيزي الزائر يشرفنا أن تقوم بالدخول إذا كنت من الأعضاء أو التسجيل إذا كنت زائرا ويمكنك إنشاء حسابك ببساطة ويمكنك التفعيل عن طريق البريد أو الانتظار قليلا حتى تقوم الإدارة بالتفعيل
منتدى التحكم الآلي والإلكترونيات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى التحكم الآلي والإلكترونيات

Automatic control , PLC , Electronics , HMI , Machine technology development , Arabic & Islamic topics , Management studies and more
 
الرئيسيةالبوابة*أحدث الصورالتسجيلدخول

 

  المَسْــألة اليَهُوديـّــة,ج1

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
khalled
مساعد
مساعد



عدد الرسائل : 44
العمر : 39
الموقع : 6of october
العمل/الترفيه : maintenance engineer
تاريخ التسجيل : 03/12/2010

 المَسْــألة اليَهُوديـّــة,ج1 Empty
مُساهمةموضوع: المَسْــألة اليَهُوديـّــة,ج1    المَسْــألة اليَهُوديـّــة,ج1 Emptyالخميس 11 أغسطس 2011 - 12:32

كَارل مَاركس
المَسْــألة اليَهُوديـّــة


النسخة المعتمدة – هذه الترجمة هي طبعة « ألفريد كوست» باريس 1952.


DEUVRES COMPLETES DE KARL MARK CEUVRES PHILUDOPHIQUES
Tome I
A. Cosles, Editeur, paris

سلامة كيلة

مقـــــــدمة
حول أهمية ( المسألة اليهودية )
طُبع كتاب " حول المسألة اليهودية " لكارل ماركس طبعات عدَّة في الوطن العربي. وتُرجم كذلك ترجمات عديدة (خمسة ترجمات حسب ما أعتقد، صدرت في ستة طبعات)، بعضها سيء حيث أنه يشوّش الأفكار الأساسية في النص، وبالتالي لا يوصل الفكرة الأساسية التي قصدها ماركس. ولهذا، ربما، كان يأخذ الموقف من اليهود انطلاقاً من الفقرات الواضحة التي يوردها، دون التفات إلى المسألة الأساسية التي يناقشها والتي كانت تشير إلى بدء تبلور رؤيته.
لكن ربما كان يُنظر إلى الكتاب من زاوية " المسألة اليهودية " بالتحديد، أي من زاوية موقف ماركس من اليهود. و أعتقد بأن هذه الزاوية هي الأضعف في الكتاب، أو على الأقلّ ليست هي الزاوية الجوهرية فيه. حيث أن الكتاب هو مرافعة من أجل العلمانية والديمقراطية وحقّ المواطنة، وهو الجانب الذي كان مهملاً في إطار الشيوعيين في العقود السابقة، لهذا لم يجرِ الالتفات إليه. كما أن الكتاب هو بداية تلمُّس " مشكلة " الملكية الخاصّة، وبالتالي النظر إلى التحرُّر الإنساني عموماً كتحرُّر من الملكية الخاصّة.
من هذا المنطلق، أعتقد بأن أهمية خاصّة تحكم إعادة طباعته في هذا الوقت. حيث أصبحت مسائل الديمقراطية والعلمانية من القضايا التي تحظى باهتمام شديد، رغم أن كثيراً منه يبدو شكلياً، أو يتبدّى كموضة، وجاء نتيجة " صدمة " انهيار المنظومة الاشتراكية. وربما ذلك هو الذي يجعل لهذا الكتاب قيمة جديدة، لأنه يناقش هذه المسائل بدقّة وعمق. وبالتالي فإن تأسيس مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والمواطنة، الذي هو من مهمات اللحظة الراهنة، يجعل الإطلاع على هذا الكتاب ضرورة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن انهيار النظم الاشتراكية قد قاد إلى التركيز المبالغ فيه على جانب واحد من جوانب أزمة هذه النظم، الذي هو غياب الديمقراطية وسيطرة الشمولية. وأفضى هذا التركيز إلى وضع الماركسية في تناقض مع الديمقراطية. لهذا سيكون ما يقوله ماركس في " المسألة اليهودية " مهماً كذلك في توضيح أصالة موقفه الديمقراطي، وكيف أن هذا الموقف الديمقراطي هو الذي أوصله، حينما نظر إلى الديمقراطية بانسجام، إلى الاشتراكية، التي كانت تبدو في هذا الكتاب كعموميات وُضعت تحت عنوان " التحرُّر الإنساني ". وبالتالي فإن التحقُّق من علاقة الماركسية بالديمقراطية تفترض الإطلاع على الكتاب، على الأقل من أجل بناء موقف منسجم من هذه العلاقة، وعدم تكرار أحكام جاءت تحت وقع الصدمة، ونتيجة معرفة سيئة بالماركسية.
لهذا أدعو إلى الالتفات إلى جوهر ما يقوله ماركس في هذا الكتاب، لأنه يقدِّم ما هو مفيد للحوار الدائر الآن، سواء فيما يتعلّق بالعلمانية أو فيما يتعلّق بالديمقراطية. وتجاوز النظرة التي تصبّ في خدمة السياسي المباشر، المتعلّق بالموقف من اليهود، انطلاقاً من أن ماركس يرفض التعامل معهم كقومية، بل يتعامل معهم كمواطنين، يفترض اندماجهم في أممهم علمنة الدولة وتكريس حريّة المعتقد الديني، رغم أن هذا الموقف صحيح ومهمّ. ولاشكّ في أن رفض الرأسماليات الأوروبية لهذه المسألة هو الذي جعلها تُصدِّرها إلى الوطن العربي، عبر فرض تهجير اليهود (الذين هم أوروبيون، أي فرنسيون وألمان وإنجليز ....) إلى فلسطين. وبالتالي لتتحوّل " المسألة اليهودية " من مشكلة أوروبية إلى مشكلة عربية، أي دون أن تُحلّ.
وكانت مصالح الرأسمال هي التي فرضت التخلّص من الفقراء ( ومنهم قطاع مهمّ من اليهود ) من جهة، وتحويلهم إلى جنود في جيش الإمبريالية، و لخدمة مشروعها في الوقت نفسه من جهة أخرى.
هذا الوضع أبقى المشكلة اليهودية، وأدمجها بالمشروع الإمبريالي، رغم أن الدول الأوروبية كانت قد أصبحت علمانية منذ بداية القرن العشرين. وبالتالي باتت هذه المشكلة بحاجة إلى حلٍّ علمانيّ على المستوى العالمي، وفي الوطن العربي خصوصاً، بعد أن تشكّلت الدولة الصهيونية على أساس الدين اليهودي (كما حدث لباكستان التي تشكّلت على أساس الإسلام، ولبنان الذي تشكّل ككيان مسيحي، خلال سنوات متقاربة 1946- 1948)، الأمر الذي يعني إلغاء الدولة بصفتها دولة دينية.
إذن، لقد حُلّت " المسألة اليهودية " في أوروبا ليس عبر التحرّر السياسي، بل من منظور إمبريالي عبر تصديرها إلى الوطن العربي. وبالتالي فهي لم تُحلّ، على العكس فقد تحوّلت إلى مشكلة عالمية. فبدل إعطاء اليهود حقّ التديّن، جرى تشكيل دولة يهودية ( الدولة اليهودية كما أسماها هيرتزل ). وبدل أن يندمج اليهود في أممهم جرى تشكيلهم في " أمة ". وبالتالي بات التخلّص من علاقة الدين بالسياسة مشكلة عالمية.
لكن لا بدّ من أن نشير إلى أن تعبير " المسألة اليهودية " هو نتاج التاريخ الأوروبي، ودور اليهود المالي ( المرابي ) البارز كان جزءاً من هذا التاريخ. المشكلة بالتالي ليست في الدين اليهودي ( الذي هو دين شرقي عربي )، بل في اليهودي الواقعي الذي أصبح دينه هو المال. وهذا هو الدور التجاري/ الربوي الذي مارسه اليهود في مجتمع القرون الوسطى القائم على سيادة الاقتصاد الطبيعي، و غياب السلعة و النقد. رغم أن تحوّلات الرأسمالية كانت تقود إلى إفقار قطاعات هامة من اليهود ككل الفئات الاجتماعية في تلك المجتمعات، و تحكُّم بعض اليهود باقتصاد دول كما يشير ماركس في النص. وهذا الدور التجاري/ الربوي هو الذي أسّس في مرحلة الرأسمالية لنشوء "المسألة اليهودية"، حيث وحسب ما يشير ماركس أصبح المال هو دين الرأسمالية ذاتها.
وبالتالي فإن ماركس كان يناقش مشكلة أوروبية، هي مشكلة الانغلاق اليهودي (الغيتو)، والدور المالي التاريخي رغم أن معظم اليهود كانوا قد أصبحوا فقراء، في الوقت الذي بات بعضهم من كبار رأسماليي أوروبا. لهذا كان يرى أن مبدأ المواطنة هو الذي يجب أن يحكم الرؤية مادام اليهود هم جزء من التكوين القومي في الأمم الأوروبية، بينما يُحلّ الدور المالي في إطار تجاوز الرأسمالية.
هذه مسائل يضيؤها نصّ ماركس، وهي حسّاسة بالنسبة لنا نحن العرب. لكن الأهم في الكتاب هو طريقة معالجة وضع الدين في المجتمع الحديث، وبالتالي مسألة التحرُّر السياسي. وهي المشكلة التي كانت لازالت ساخنة في أوروبا أواسط القرن التاسع عشر، والتي كانت البرجوازية المنتصرة لازالت تماطل في حلّها لأنها تستخدمها. لكن بعكس ما هو شائع، يتبنى ماركس موقفاً علمانياً منسجماً من الدين، ويرفض الموقف الإلحادي، وهو يخالف برونو باور في موقفه من الدين اليهودي حينما يعتبر أن التحرُّر السياسي يفترض تحرُّر اليهودي من يهوديته، ليؤكّد بأن المسألة تتعلّق بتحرُّر الدولة من الدين، أي أن تكفّ عن أن تكون دولة دينية، مع ضمان حريّة المعتقد الديني، انطلاقاً من تأكيد مبدأ المواطنة.
ماركس يرفض أن يكون التخلّي عن الدين هو شرط التحرُّر السياسي، ولا يعتبر أن إلغاء الدور السياسي للدين هو إلغاء للدين ذاته. ويشير إلى أن وجود الدين " المفعم بالحياة والقوّة "، لا يتعارض مع قيام " الدولة الكاملة "، أي " الدولة المدنية "، مؤكّداً على أن التحرُّر السياسي هو تحرُّر الدولة من الدين فقط، حيث يتحرَّر الإنسان سياسياً من الدين عبر إقصائه من الحقل العام إلى الحقل الخاص. وبالتالي فإن اكتمال التحرُّر السياسي لا يلغي التديّن الحقيقي للإنسان، كما أنه لا يهدف إلى إلغائه، لهذا فهو يدع التديّن قائماً، لكن دون امتيازات. الأمر الذي يعني أن تحرُّر الدولة من الدين لا يعني تحرُّر الإنسان من الدين. لهذا فإن التحرُّر السياسي لا يعني تحرُّر الإنسان من الدين بل حصوله على الحريّة الدينية.
وماركس يعتبر أن كل ذلك يمثّل " خطوة تقدميّة كبيرة حقاً". وهذه مسألة هامّة في تاريخ الماركسية لأنها تشير إلى تضمُّن الماركسية كل منجزات " العصر البرجوازي ". حيث كان ماركس ينطلق منها للتأسيس لما هو أبعد، لا أن يقفز عنها، أو" يرجمها " بصفتها " بنت زنا ". وكما أشرت فإن عمق فهمه لمسألة التحرُّر السياسي، وكمظهرها الواقعي الذي كان يشير إلى نشوء تمايز جديد هو التمايز الطبقي، وبالتالي اللامساواة، هو الذي جعله يميّز بين التحرُّر السياسي و التحرُّر الإنساني، وأن يعتبر أن هذه الخطوة التقدميّة الكبيرة ليست الشكل الأخير للتحرُّر الإنساني، بل أن " المجتمع البرجوازي " الذي يتشكّل، والذي افترض التحرُّر السياسي، يؤسِّس لانقسام جديد يحتاج إلى حلٍّ يحقّق التحرُّر الإنساني، يفرض التخلّص من الملكية الخاصة. وهو المشروع الذي شرع في بلورته منذئذ ( 1843- 1844 ) و استمرّ به إلى أن صاغ كتابه " رأس المال "، وأسّس الأممية الأولى.
إن ماركس هنا يقول أن التحرُّر السياسي، وكل المفاهيم الديمقراطية العلمانية التي أنتجها عصر التنوير، وبدا أن البرجوازية هي حاملها، هي ليست نهاية المطاف رغم أنها تمثّل مستوى في تحرُّر الإنسان هو المستوى السياسي، الذي هو خطوة تقدّمية هائلة، و انتقاله مهمة في التحرُّر الإنساني. لهذا يجب أن نبحث في طبيعة التحرُّر الإنساني ذاته. وهنا يلمس ماركس ما أسماه دين اليهودي الواقعي، الذي هو المال، وهو " الدين" الذي عمّمته الرأسمالية ليصبح مشكلة العالم. وليكون التخلّص منه هو تحقيق للتحرُّر الإنساني. ورغم أن ماركس في هذا النصّ لم يستخدم االتعابير الطبقية، إلا أن هذا النصّ كان، مع مخطوطات 1844 وكتاب الأيديولوجيا الألمانية، المدخل للوصول إلى تصوّره الجديد. لهذا أشرت إلى أن ماركس وصل إلى الاشتراكية عبر وعيه الديمقراطي، وليس على الضد منه.
وإذا كان لينين قد أشار إلى أن مصادر الماركسية هي ثلاث: الفلسفة الألمانية والاقتصاد السياسي الإنجليزي والاشتراكية الفرنسية، فربما يكون قد ظلم ماركس لأنه تجاهل أثر عصر التنوير الأوروبي في تكوين هذا الرجل، وبالتالي موقع مفاهيم الحرّية والديمقراطية والعلمانية في الماركسية ذاتها. فالماركسية لم تأتِ كنفيٍ لكل ذلك، بل جاءت كتعميم لهذه المفاهيم على مستويات المجتمع كافّة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. حيث أن الحق السياسي المتساوي يقود إلى الحق المتساوي في العيش. وهذا الأمر – كما أشرنا – فرض هجوم ماركس على الملكية الخاصة كونها تفرض التمييز، ليس في العيش فقط بل وفي السياسة كذلك. وهنا لا يقود ذلك إلى تجاوز الحقوق السياسية بل يفرض أن يتضمّنها " النظام الجديد ".
ورغم أن ماركس يُبدي انتقاداً لـ " حقوق الإنسان " التي جاءت مع الثورة الفرنسية، سنلحظ بأنه ينتقدها انطلاقاً من واقعها آنئذ، حيث تقلّصت إلى حقوق للبرجوازية فقط. يلاحظ ماركس بأنه جرى التمييز بين حقوق الإنسان و حقوق المواطن. فقد عنت الحرّية الحق في فِعْل كل شيء لا يضرّ الآخرين. وأصبح الاستخدام العملي لحق الإنسان في الحرّية يتلخّص في حقّه في الملكية الخاصّة، أي أن يستمتع بثرواته كما يريد دون مراعاة الآخرين، وبالتالي تكريس حق المنفعة الذاتية. و لتتحدّد المساواة في أن يُنظر إلى كل إنسان بصورة متساوية كوحدة قائمة بذاتها. ولهذا تعمّمت الملكية الخاصّة البرجوازية وانتفت حقوق الإنسان السياسية طيلة القرن التاسع عشر تقريباً، وخصوصاً لدى كتابه نصّ " حول المسألة اليهودية ". فقد دُفع المواطن إلى الفقر دون أن يحصل على حقوقه السياسية تلك. وهو الأمر الذي دفع ماركس إلى الربط بين التحرُّر السياسي والتحرُّر الطبقي، لكي تكتمل الحقوق ويتحقّق التحرُّر الإنساني.
سنشير إلى أن ظروف أوروبا حينما كتب ماركس نصّ " حول المسألة اليهودية " كانت لازالت لم تكتمل. حيث كانت العلمانية التي جرت الدعوة إليها لازالت مطلباً، في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكل أوروبا، رغم بعض التطوّر الواقعي في هذا المجال، ولقد انتصرت بداية القرن العشرين ( في فرنسا سنة 1905 ). وبالتالي كان النقاش حولها لازال مهماً، وكانت البرجوازية الناشئة ليست منسجمة إلى النهاية مع تطبيقها، الأمر الذي جعل لموقف ماركس والماركسية أهمية لاشكّ فيها في إطار الصراع الواقعي لانتصار العلمنة، وتأكيد مبدأ المواطنة. كما أن التحرُّر السياسي كان لازال حلماً، لأن النظم الرأسمالية كانت لازالت دكتاتورية ( كما في فرنسا )، أو تحصر " الديمقراطية في مَنْ يملك فقط ، أي في البرجوازية ذاتها ( كما في بريطانيا )، أو أنها لازالت إقطاعية (كما في ألمانيا). ولهذا بدت مبادئ حقوق الإنسان التي أعلنتها الثورتان الأميركية والفرنسية، مسوّغاً لتكريس الملكية الخاصّة، حيث أقرّت المساواة القانونية بين المواطنين، وكرّست حق التملّك، دون أن تُقرّ حق الانتخاب وتشكيل الأحزاب وحرّية الصحافة وتداول السلطة.
وهذه المسائل كانت في صلب نضالات الاشتراكيين لعقود طويلة. وكتاب " حول المسألة اليهودية " كان من ضمن نضالات ماركس من أجل تكريس العلمانية ومبدأ المواطنة والحريات السياسية. وهذا ما يجب أن نلتفت إليه، لأنه يعيد تأسيس رؤية الماركسية، من زاوية أنها – كما تبلور في الجدل المادي – لم تأتِ لتنفي فقط ، بل أتت لتكمل كذلك. لهذا فإن مبادئ عصر الأنوار هي أحد مصادر تشكُّلها، هي متضمّنة فيها. وهو الأمر الذي يهمّش كل الأفكار التي جرى تداولها منذ انتصار الماركسية السوفييتية حول " دكتاتورية البروليتاريا " التي وردت في نصوص ماركس ثلاث مرّات فقط، وكانت تعني دكتاتورية الأغلبية على الضد من دكتاتورية الأقلية، في عصر سيادة دكتاتورية البرجوازية السافرة. والتي كانت متضمّنة الديمقراطية في إطار الأغلبية. ويهمّش كذلك وضع الديمقراطية الاجتماعية في مواجهة الديمقراطية السياسية، بوصف هذه الأخيرة ديمقراطية برجوازية يجب رجمها.
هذه المفاهيم التي نبتت في مجتمع متخلّف، وأسّست لسلطة بطركية مستبدّة. والتي غطّتها بتعبير لماركس لم يكن ذو أهميّة. وبالتالي ألصقت بالاشتراكية صفة الدكتاتورية، و وصمته بالاستبداد. ولاشكّ في أن وضع روسيا الإقطاعية بداية القرن العشرين كان يسمح بنشوء مثل هذا النظام السياسي، مستنداً على ما بات للدولة من دور اقتصاديّ هائل. لهذا أقول: ابحثوا عن الاستبداد في تكوين روسيا القروسطي، وابحثوا عن أثر ذلك في الماركسية، لا أن تعودوا إلى الماركسية لتفسير صيرورة واقعية. أي لا تعودوا إلى " النظرية " لتفسير ما حدث في الواقع، رغم أن النظرية تحمل جزءاً من العبء لأنها لم تكن قد بلورت صيغة متكاملة حول الدولة و النظام السياسي، و بالتالي احتملت التأويل السلبي.
والعودة لقراءة ماركس ضرورية هنا، لأننا معنيّون بإعادة صياغة التصوّر الماركسي، وفيما يتعلّق بالعلمانية والديمقراطية خصوصاً. ورغم أن كتاب " حول المسألة اليهودية " هو من الكتابات الأولى، إلا أنه يشير إلى المفصل الأساس الذي نقل ماركس من " هيغلي يساري" كما كان يُسمّى تيار كامل آنئذ، إلى اشتراكي يطمح إلى إلغاء الملكية الخاصّة و تحقيق الشيوعية. لكنّ هذا المفصل يوضّح الترابط الذي أوجده بين القيم التي أوجدها مفكّرو عصر الأنوار، وبين الماركسية ذاتها. حيث بدا أنها أصبحت جزءاً من التشكيل الماركسي لأنها مثّلت خطوة تقدّمية كبيرة.
وماركس في هذا الكتاب يتلمّس كذلك التفسير الطبقي والتحليل المادي، ويقف على عتبة الاشتراكية. وهذا ما جعل النصّ، من جهة، ملتبس في هذا المجال، حيث أنه يتحدّث عن المال، ويشير إلى التحرُّر الإنساني الذي يقوم على إلغاء الملكية الخاصة، ويدعو إلى النشاط الاجتماعي وتجاوز الفرد المنعزل إلى ما هو مجتمعي.
الكتاب يُقرأ، ليس ككتاب ماركسي فقط، بل ككتاب يدافع عن العلمانية والديمقراطية، ويؤسِّس لمبدأ المواطنة. ويعرّف ببدايات تشكُّل الماركسية.




الأنانية اليهودية
H
يطالب اليهود الألمان بالتحرر، فبأي تحرّر يطالبون؟ التحرّر بوصفهم مواطنين؟ التحرّر السياسي؟
يحييهم برونو باور(1): في ألمانيا، ليس ثمة إنسان متحرّر سياسياً. ونحن أنفسنا لسنا أحراراً. فكيف نستطيع تحريركم؟ إنكم معشر اليهود، لأنانيوّن حين تطالبون لأنفسكم، بسبب من أنكم يهود، بانعتاق خاص، فعليكم أن تعمِلوا، بوصفكم ألمان، على الانعتاق السياسي لألمانيا، وبوصفكم بشراً، على الانعتاق البشري. والنوع الخاص لاضطهادكم لذلكم، عليكم أن تحسّوه، ليس بوصفه استثناءً عن القاعدة، وإنمّا في الأصحَّ بوصفه تأكيداً لها.
أم تُرى أن اليهود يطالبون بأن يوضعوا على قدم المساواة مع الرعايا المسيحيين؟ فإن كانوا يعترفون بالدولة المسيحية بوصفها قائمة على العدل، فعندئذ يعترفون بنظام الاستعباد الشامل. فلماذا لا يرضيهم نيرهم الخاص، في حين أن النير العام يرضيهم. وأنى للألماني أن يهتم بتحرّر اليهودي، إذا كان اليهودي لا يهتم بتحرّر الألماني؟
ليس في الدولة المسيحية إلاّ الامتيازات. واليهودي يملك في ذاته امتياز كونه يهودياً. وإن له، من حيث هو يهودي، حقوقاً ليست للمسيحيين. فلماذا يطالب بحقوق لا يملكها، حقوق يتمته بها المسيحيون؟
واليهودي، بمطالبته بالتحرّر من الدولة المسيحية، يطلب بأن تتخلى الدولة المسيحية عن وهمها الديني المُسَبَّق، فهل يتخلى، هو اليهودي، عن وهمه الديني المُسَبَّق؟ إذن فهل يحق له أن يطالب آخر بالتنازل عن دينه؟
الدولة المسيحية لا تستطيع، من حيث جوهرها، أن تُحرّر اليهودي، ويضيف باور: ولكن اليهودي لا يستطيع، من حيث جوهره، أن يتحرّر. وما بقيت الدولة مسيحية، واليهودي يهودياً، فإن كلاهما على الرواء غير قادر على منح التحرّر للآخر، أو لتلقيه.
لا تستطيع الدولة المسيحية أن تقف إزاء اليهود غير موقف الدولة المسيحية. فعليها، استناداً إلى امتيازها، أن تسمح بعزل اليهودي عن سائر الرعايا. ولكن عليها، بعدئذٍ، أن تثقل كاهل هذا اليهودي بالاضطهاد المنيخ على الأوساط الأخرى. ويكون ذلك على نحو أقسى كلما تعارض اليهودي دينياً مع الدين السائد. ولكن اليهودي لا يستطيع من جهته، أن يقف من الدولة إلا موقف اليهودي، يعني موقف الغريب: فهو يعارض القومية الحقيقية بقوميته الوهمية. والقانون الحقيقي بقانونه الخيالي. إنه يظن أن من حقه الانفصال عن سائر البشرية، وهو لا يشارك، مبدئياً، في الحركة التاريخية، إنه يطمح إلى مستقبل ليس بينه وبين المستقبل العام للإنسان، أية سمة مشتركة. وهو يعتبر نفسه بمثابة عضو من الشعب اليهودي ويرى أن الشعب اليهودي هو الشعب المختار. إذن، فبأي حق، أيها اليهود، تطالبون بالتحرّر؟ أبسبب دينكم؟ إنه العدو اللدود لدين الدولة. ألأنكم مواطنون؟ ليس ثمة مواطنون في ألمانيا، أم لأنكم بشر؟ إنكم لستم بشراً، وكذلك أولئك الذين تستنجدون بهم.



الديــن والدولــة
·
طرح باور مسألة التحرّر اليهودي بطريقة جديدة. بعد أن قام بنقد الأوضاع القديمة والحلول القديمة للمسألة. فهو يتساءل: ما هي طبيعة اليهودي المطالب بالتحرّر، وما هي طبيعة الدولة المسيحية التي عليها أن تحرِّره؟ وهو يجيب بنقدٍ للديانة اليهودية. وهو يحلل التعارض الديني بين اليهودية والمسيحية، ويفسّر لنا جوهر الدولة المسيحية، وذلك كله بجرأة، ووضوح، وصفاء ذهن، وعمق، وبلغة تتساوى بالدِّقة والمتانة والقوَّة.
لكن كيف يحلّ باور – إذن – المسألة اليهودية؟ وما هي النتيجة؟ إن طريقة طرح مسألة من المسائل تتضمن حلَّها.
إن نقد المسألة اليهودية هو الجواب عن المسألة اليهودية.
إليك الخلاصة:
يجب أن نحرِّر أنفسنا قبل أن نستطيع تحرير الآخرين:
إن أصلب شكل من أشكال التعارض بين اليهودي والمسيحي هو التعارض الديني. وكيف يُحَلّ التعارض؟ بجعله مستحيلاً. وكيف يُجْعَل التعارض الديني مستحيلاً؟ بإلغاء الدين. ومنذ أن لا يرى اليهودي والمسيحي في الدين الخاص بكل منهما إلا درجات مختلفة من تطور العقل البشري، ويتعرّف على جلدي أفعى سلخهما التاريخ وعلى الإنسان الذي يمثِّل الأفعى التي كانت في هذين الجلدين، فلن يجدا نفسيهما، من بعد، في تعارض ديني، وإنما في علاقة نقدية بحتة، علاقة علمية، بشرية. وعندئذٍ يؤلف العلم وحدتهما. أما التناقضات العلمية فيحلّها العلم نفسه.
وينهض في وجه اليهودي، بصورة خاصة، فقدان التحرّر السياسي بصورة عامة، كما تناهضه مسيحية الدولة البينّة. ولكن للمسألة اليهودية، من وجهة نظر بوير، أهمية عامة مستقلة عن الشروط الألمانية الخاصة. إنها مسألة العلاقات بين الدين والدولة، والتناقض بين الفكرة الدينية المَسَبّقة، والتحرّر السياسي. التحرّر من الدين، هذا هو الشرط الذي يوضع أمام اليهودي الذي يطالب بتحرّره السياسي، وأمام الدولة التي عليها أن تحرّره وتتحرّر هي نفسها على السواء.
يقول المرء، واليهودي نفسه يقول: « حسناً. ولكن اليهودي لا ينبغي أن يُحَرّر لأنه يهودي، وبسبب من أنه يملك مبدأ أخلاقياً متفوقاً، وإنسانياً كونياً، والأصح أن اليهودي سوف يتخذ موضعه وراء المواطن، ويكون مواطناً، على رغم أنه يهودي ويريد أن يظل يهودياً، وعلى الرغم من أنه مواطن ويعيش في شروط إنسانية شاملة: إن طبيعته اليهودية والمحدودة تنتصر دائماً، وفي النهاية، على التزاماته الإنسانية والسياسية. غير أن ثمة فكرة خاطئة راسخة وهي أن طبيعته تتخطاها مبادئ عامة. ولكن لو كان الأمر على هذا النحو، فإنها – أي طبيعة اليهودية – تتخطى، على العكس، جميع الأشياء الأخرى.» « ولا يستطيع اليهودي، في الحياة السياسية، أن يبقى يهودياً، إلا بمعنى سفسطائي، وحسب المظهر، وبالتالي، فإن كان يريد أن يبقى يهودياً لكان المظهر – إذن – هو الجوهري وهو الذي ينتصر وبتعبير آخر فحياة اليهودي في الدولة لن تكون إلا مظهراً أو شذوذاً آنياً عن الجوهر والقاعدة(1).»
ولننظر، من جهة أخرى، كيف يحدد باور مهمة الدولة يقول:
« لقد قدمت لنا فرنسا منذ زمن وجيز(2)، فيما يمس المسألة اليهودية- كما نفعل من ناحية أخرى باستمرار في جميع المسائل السياسية الأخرى – قدّمت لنا مشهد حياة حرة، ولكنها تخرق حريتها في القانون، هكذا يجعل إذن منه مجرد مظهر، على حين أنها من ناحية أخرى، تدحض قانونها الحر من خلال أعمالها.»( Jundenfrage, p 64) (المسألة اليهودية، ص64)
« إن الحرية العامة، في فرنسا، لم تُعْلَن بعد قانوناً، وبالتالي فالمسألة اليهودية لم تُحل أيضاً، ذلك لأن الحرية القانونية التي يتساوى فيها جميع المواطنين – هي في الحياة مقيدة، هذه الحياة التي ماتزال تسيطر عليها الامتيازات الدينية وتقطِّعها، وذلك لأن انعدام حرية الحياة تنعكس في القانون الذي يرغم على تكريس التمييز بين المواطنين، الذين هم أحرار من حيث طبيعتهم، إلى مضطهدين ومُضْطَهدين» (Jundenfrage, p 65) (المسألة اليهودية، ص 65).
إذن فمتى تنحل المسألة اليهودية، بالنسبة إلى فرنسا؟
« فاليهودي مثلاً، يكون قد كف فعلاً عن كونه يهودياً، حين لا منعه قانونه من ممارسة واجباته نحو الدولة ونحو مواطنيه، وحين يحضر يوم السبت جلسات المجلس النيابي ويشارك فيها. وينبغي على كل حال، إلغاء جميع الامتيازات الدينية، وذلك يعني أيضاً، إلغاء كل احتكار تناله كنيسة متميزة، فإذا كان ثمة البعض يعتقدون – أو إذا كانت الأغلبية الساحقة أيضاً تعتقد – بواجبها في تأدية واجبات دينية، فهذه الممارسة يجب أن تمنح لهم، بمثابة شأن خاص تماماً.(Judenfrage,p 65) ( المسألة اليهودية، ص65).
« لن يبقى ثمة من دين، يوم لا يبقى ثمة دين متميّز. جرّد الدين من قوّته بوصفه شيئاً متميزاً، فلن يبقى له بعد من وجود.(Jundenfrage, p 65) (المسألة اليهودية، ص 65).
« لقد رأى السيد مارتان دي نور، في اقتراحه عدم ذكر يوم الأحد في القانون، اقتراحاً يعلن أن المسيحية لم يبق لها وجود، واستجابة لهذا المبدأ نفسه – وهذا الحق هو حق مشروع، (بصورة مطلقة) فإن الإعلان بأن قانون السبت لم يعد ملزماً اليهودي، سيعني إعلان أن وجود اليهودية قد قضي عليه.» (Jundenfrage, p 71) (المسألة اليهودية، ص 65).
وهكذا يطلب باور أن يتخلى اليهودي عن اليهودية، والإنسان إجمالاً عن الدين، لكي يتحرّر كمواطن، ومن جهة أخرى، وهذه نتيجة منطقة، يعتبر الإلغاء السياسي للدين بمثابة إلغاء لكل دين. إن الدولة التي تفترض الدين مسبقاً ليست بعد دولة واقعية حقيقية. «وبديهي أن الفكرة الدينية تقدم للدولة ضمانات. ولكن لأية دولة؟ لأي نوع من أنواع الدولة؟(Jundenfrage, p 97) (المسألة اليهودية، ص 97).



بين اليهودية والمسيحية
·
وهنا نرى أن باور لا ينظر إلى المسألة اليهودية إلا بشكل أحادي الجانب. فلم يكن كافياً التساؤل: من ينبغي له أن يُحرِّر، ومَنْ الذي يجب أن يُحرَّر؟ فعلى النقد أن يطرح على نفسه سؤالاً ثالثاً: بأي نوع من أنواع التحرّر يتعلق الأمر، وأية شروط تقوم في جوهر التحرّر المطلوب؟ إن نقد التحرّر السياسي لم يكن هو نفسه إلا النقد النهائي للمسألة اليهودية وذوبانها الحقيقي في (مسألة العصر العامة).
وبسبب من أن باور لا يرفع المسألة إلى هذا المستوى، يقع في متناقضات. وهو يضع شروطاً ليست قائمة على أساس من جوهر التحرّر السياسي. وهو يعالج مسائل لا تدخل في القضية التي يبحثها، ويحل قضايا تدع المسألة التي يعالجها غير مسموعة. حين يقول باور عن خصوم التحرّر اليهودي: « إن خطأهم الوحيد هو افتراضهم أن الدولة المسيحية هي وحدها الصحيحة، وبالتالي عدم إخضاعها للنقد نفسه الذي تُخضع له اليهودية.» (المرجع المذكور – ص3).
نرى خطأ باور في هذه الواقعة وهو أنه يخضع « الدولة المسيحية» للنقد، وليس « الدولة في ذاتها» وإنه – أي باور – لا يفحص العلاقة بين التحرّر السياسي والتحرّر البشري، ويضع – إذن – شروطاً لا يمكن تفسيرها. وهو، بسبب افتقاره إلى الحس النقدي، يخلط بين التحرّر السياسي والتحرّر البشري الشامل. فإذا سأل باور اليهود، حل لكم الحق، ووجهة نظركم على ما هي عليه، بالمطالبة بالتحرّر السياسي؟ نطرح السؤال المعاكس: هل لوجهة نظر التحرّر السياسي الحق بمطالبة اليهودي بإلغاء اليهودية، والإنسان بإلغاء كل دين؟
إن المسألة اليهودية تُطرح بصورة تختلف تبعاً للدولة التي يعيش اليهودي في ظلها. ففي ألمانيا، حيث ليس ثمة دولة سياسية، دولة من حيث هي دولة، نرى أن المسألة اليهودية هي مسألة لاهوتية بحتتة. ويجد اليهودي نفسه في تعارض ديني مع الدولة، التي تعلن المسيحية أساساً لها، فهذه الدولة هي دولة لاهوتية مغرقة في لاهوتيتها. ويكون النقد هنا نقدا للاهوت، نقداّ ذا حدِّين، يعني نقد اللاهوت اليهودي. وعلى رغم بقائنا هنا في النقد، فإننا لا نخرج من اللاهوت!.


اليهودية والدستور
·
أما في فرنسا، هذه الدولة الدستورية، فالمسألة اليهودية هي مسألة النظام الدستوري، مسألة نقص التحرّر السياسي، ونظراً لأنه يحتفظ هنا بمظهر دين للدولة، في شكل تافه متناقض، فإنَّ وضع اليهود يحتفظ، إزاء الدولة، بمظهر تعارض ديني لاهوتي.
ولا تفقد المسألة اليهودية مدلولها اللاهوتي وتصبح مسألة علمانية، إلاَّ في دول أميركة الشمالية الحرة، أو على الأقل في بعض هذه الدول، ولا تستطيع أن تنجلي علاقات اليهودي، وبصورة عامة علاقات الرجل الديني بالدولة السياسية وبالتالي علاقات الدين بالدولة، في طابعها الخاص وفي كل صفاتها، إلا في البلاد التي توجد فيها الدولة السياسية في تطورها الكامل. ونقد هذه العلاقة يكف عن أن يكون نقداً لاهوتياً، منذ أن تكفّ الدولة عن أن تقف من الدين موقفاً لاهوتياً، منذ أن تتخذ وجهة النظر السياسية وتتصرف بوصفها دولة بالفعل. ويصبح النقد عندئذٍ هو نقد للدولة السياسية. ومن هذه الناحية، حيث تكفّ المسألة عن كونها لاهوتية، يكفّ نقد باور عن كونه نقداً.
« فليس ثمة في الولايات المتحدة دين للدولة، ولا دين معلن بوصفه دين الأغلبية، ولا تفوّق لدين على آخر. فالدولة مستقلة عن جميع الأديان.» (ماري، أو الرق في الولايات المتحدة، الخ، تأليف ج. دي بومون، باريس 1835، ص214). بل ثمة في أميركة الشمالية ولايات « لا يفرض فيها الدستور العقائد الدينية وممارسة عبادة من العبادات بمثابة شرط للامتيازات السياسية.» (المرجع المذكور- 225) ورغم ذلك « فلا يُعْتَقَدْ في الولايات المتحدة أن رجلاً لا دين له يستطيع أن يكون رجلاً شريفاً (المرجع ذاته- ص224). ومع ذلك فأميركة الشمالية تظل هي لبلاد التدين بصورة خاصة، كما يؤكد كل من بومون، وتوكفيل، والانجليزي هاملتون.
بيد أن دول أميركية الشمالية لا تخدمنا إلا بمثابة مثال. والمسألة هي هذه: ما هي علاقة التحرّر السياسي الكامل بالدين؟ فإذا كنا لا نجد الدين وحسب في بلاد التحرر السياسي المكتمل، وإنما « وجوده المفعم بالحياة والقوة أيضاً»، تكون الحجة قد أقيمت على أن وجود الدين لا يتعارض في شيء مع اكتمال الدولة. ولكن لما كان وجود الدين هو وجود النقص. فإن أصل هذا النقص لا يمكن أن يُبْحَثَ عنه إلا في جوهر الدولة نفسه. ولا يعود الدين بالنسبة لنا أساساً، بل فقط ظاهرة للمحدودية الدنيوية، لهذا السبب نفسر الضيق الديني للمواطنين الأحرار بالضيق الدنيوي. ونحن لا نزعم أبداً أن عليهم إلغاء حدودهم الدينية مند أن يُلْغُوا حواجزهم الدنيوية. فنحن لا نحوّل المسائل الدنيوية إلى مسائل لاهوتية، بل إننا نحوِّل المسائل اللاهوتية إلى مسائل دنيوية. وبعد أن انحلَّ التاريخ زمناً طويلاً من في الوهم، سوف نحل نحن الوهم في ضوء التاريخ.
إن مسألة علاقات التحرّر السياسي بالدين تصبح بالنسبة إلينا مسألة علاقات التحرّر السياسي بالتحرّر البشري. ونحن ننقد الضعف الديني للدولة السياسية، بنقد الدولة السياسية، بصرف النظر عن نواحي ضعفها الدينية، في بنيانها الدنيوي.
ونحن نمنح التناقض بين الدولة ودين معين من الأديان، اليهودية مثلاً، نمنحه عصراً بشرياً، من خلال التناقض بين الدولة وعناصر دنيوية معينة، وبتحويل التناقض بين الدولة والدين بصورة عامة، إلى تناقض بين الدولة وأسسها بصورة عامة.
إن التحرّر السياسي لليهودية، وللمسيحي، وبتعبير موجز للإنسال الديني، إنما هو تحرير الدولة من اليهودية ومن المسيحية ومن الدين بصورة عامة. والدولة في شكلها الخاص، في النمط الخاص بجوهرها، بوصفها دولة، تتحرّر من الدين بتحرّرها من دين الدولة، يعني بعدم إعرافها بأي دين، وإنما بتأكيدها ذاتها على نحو محض، وبوصفها دولة فقط. إن التحرّر السياسي من الدين ليس هو التحرّر بصورة مطلقة وكليَّة من الدين، ذلك لأن التحرّر السياسي ليس هو النمط المطلق الكلي للتحرّر البشري.


التحرر السياسي والتحرر الانساني
·
إن حد التحرّر السياسي يظهر فوراً في هذا الواقع، وهو أن الدولة تستطيع أن تحرّر نفسها من حاجز دون أي يكون الانسان متحرّر منه فعلاً، وفي أن الدولة تستطيع أن تكون حرَّة دون أن يكون الإنسان فيها حرّاً. وباور نفسه يُقرُّ ضمنياً بهذا الأمر، بربطه التحرّر السياسي بالشرط التالي، إذ يقول: « ثم أنه ينبغي إلغاء كل امتياز ديني، إذن ينبغي كذلك إلغاء الاحتكار الذي تملكه كنيسة متميِّزة، وإذا كان البعض، أو حتى الغالبية الساحقة ما يزالون يعتقدون بواجب ممارسة فروض دينية، فيجب أن يُمْنحوا حق هذه الممارسة بوصفها أمراً خاصاً تماماً».
فالدولة تستطيع أن تكون قد تحررت من الدين، حتى ولو كانت الغالبية العظمى ما تزال متديِّنة، من حيث أنها تكون كذلك في حياتها الخاصة.
ولكن موقف الدولة، والدولة الحُرَّة بخاصة، إزاء الدين ليس إلا موقف الناس الذين يؤلفون الدولة، إزاء الدين. وبالتالي فإن الإنسان يتحرّر بواسطة الدولة، يتحرّر بصورة سياسية من عقّبَة ما، بارتفاعه فوقها، وهو في تناقض مع نفسه، بصورة مُجردة، غير كاملة، جزئية. ومن جهة أخرى، فالإنسان يتحرّر، بتحرِّره سياسياً، وإنما يكون ذلك بوساطة وسيط، وهو في الواقع وسيط ضروري. وأخيراً فالإنسان، حتى حين يعلن نفسه ملحداً، بوساطة الدولة، يعني حين يعلن الدولة دولة ملحدة، فهو يظل دائماً محدوداً من وجهة النظر الدينية، وذلك بالضبط لأنه لا يعترف، بصفته تلك، إلا بوساطة وسيط.
إن الدولة هي الوسيط بين الإنسان وحريته، وكما أن المسيح هو الوسيط الذي يُحمِّلُه الإنسان كل أُلوهيته وجميع حدوده الدينية، فالدولة هي الوسيط الذي يحملْه الإنسان كل إنسانيته، وجميع حدوده البشرية.
ويشترك التحرّر السياسي للإنسان من الدين، مع التحرّر السياسي بشكل عام بكل النقائص والفضائل. فالدولة، بوصفها كذلك، تلغي الملكية الخاصة مثلاً، ويصدر الإنسان قراراً سياسياً بإلغاء الملكية الخاصة منذ أن يقرّر أن حقوق الإنسان في أن يَنْتَخِبَ ويُنْتَخَب لم تَعُد مرتبطة بضرائب يدفعها من يمارس تلك الحقوق، كما قُرِّر ذلك في عدد كبير من ولايات أميركة الشمالية. ويفسِّر هاملتون تفسيراً صحيحاً جداً هذا الحَدث، من وجهة النظر السياسية: «لقد انتصرت الجماهير الساحقة على الملاكين وعلى الثروة المالية». ألا تكون الملكية الفردية قد ألغيت نظرياً حين يكون ذلك الذي لا يملك شيئاً قد أصبح هو المشرّع لذلك الذي يملك؟ إن الضريبة على حقوق الترشيح والانتخاب هي آخر طريقة سياسية من طرائق الاعتراف بالملكية الفردية.
ولكن الإلغاء السياسي للملكية الفردية ليس فقط لا يُلْغي الملكية الفردية، وإنما هو يفترضها أيضاً. إن الدولة تلغي على طريقتها، الفوارق الناشئة عن النسب والمرتبة الاجتماعية والثقافة والعمل الخاص، بِرَسْمها أن النسب والمرتبة الاجتماعية والثقافة والعمل الخاص، هي فوارق غير سياسية وحين تعلن بصرفها النظر عن هذه الفوارق، بأن كل عضو من أعضاء الشعب يتمتع على قدم المساواة بالسيادة الشعبية، وحين تعامل جميع عناصر الحياة الشعبية الحقيقية باتخاذها وجهة نظر الدولة.
ومع ذلك فالدولة تترك الملكية الخاصة والثقافة والعمل الخاص تعمل على طريقتها، يعني من حيث هي ملكية خاصة، وثقافة، وعمل خاص، وقيامها بتغليب طبيعتها الخاصة. وإنها بعيدة عن إلغاء هذه الفوارق الواقعية، بل أنها تعي كونها دولة سياسية، ولا تغلّب كُلّيتها إلا بمعارضة هذه العناصر. إذن فهيغل يحدّد تحديداً صحيحاً بصورة مطلقة العلاقة بين الدولة السياسية والدين، حين يقول: «لكي تستطيع الدولة أن توجد بمثابة واقع واع وأخلاقي للعقل، فعليها أن تتميز عن شكل السلطة والإيمان. ولكن هذا التميُّز لا يظهر إلا بمقدار ما يتوصّل العنصر الألكنسي نفسه إلى الفَصْل. ولم تكتسب الدولة شمولَ الفكر، كما لم تكتسب مبدأ شكلها، ولم تتوصل إلى منحها الوجود، إلا بهذه الصورة وبارتفاعها فوق الكنائس الخاصة »
(Zwite Ausgabe, p 346) (Heqel – Rechtsphilosophie)
هذا صحيح! والدولة لم تتكوّن بوصفها كليّة، إلا على هذا النحو، وبارتفاعها فوق العناصر الخاصة.
إن الدولة السياسية الكاملة هي، تبعاً لجوهرها، حياة النوع والإنسان، بتعارضٍ مع حياته المادية. فجميع الشروط لهذه الحياة الأنانية تستمر في البقاء في المجتمع المدني خارج مجال الدولة، ولكن بمثابة خصائص للمجتمع البورجوازي. وحيث توصلت الدولة إلى ازدهارها الحقيقي، يعيش الإنسان، وليس فقط في الفكر أو في الضمير، وإنما في الواقع، في الحياة، يعيش حياة مزدوجة سماوية وأرضية، حياته في المُتحَّد السياسي حيث يعتبر نفسه بمثابة كائن عام، ووجوده في المجتمع المدني، حيث يعمل بوصفه مجرد رجل من العامة، ويرى في سائر الناس مُجَرَّد وسائل، وينحط هو نفسه إلى دور مجرد وسيلة، ويصبح لعبة للقوى الغريبة. إن الدولة السياسية، هي إزاء المجتمع المدني، على مِثْل روحانية السماء بالنسبة إلى الأرض، وهي تكون حياله في التعارض نفسه، وتنتصر الانتصار نفسه الذي ينتصر الدين فيه على العالم الدنيوي، فهي مرغمة على الاعتراف به، وإعادة إنشائه، وإفساح المجال لكي تخضع هي نفسها له. إن الإنسان في واقعه الأكثر مباشرة، في المجتمع المدني، هو كائن دنيوي، فهناك حيث هو نفسه يعتبر نفسه وحيث يعتبره الآخرون بمثابة فرد واقعي، يكون ظاهرة غير حقيقية.
وفي الدولة، على العكس، حيث تكون للإنسان قيمة بوصفه كائناً بشرياً، فهو عضو خيالي من سيادة خيالية، مُجَرّد من حياته الواقعية والفردية مليء بكُليِّة غير واقعية.
إن التناقض الذي يجد الإنسان نفسه به، من حيث هو يمارس ديناً خاصاً ومواطن في دولة، مع الناس الآخرين من حيث هم أعضاء في الوجود المجتمعي، تعود بأسبابه إلى الانقسام المدني بين الدولة السياسية والمجتمع المدني. فبالنسية إلى الإنسان المنظور إليه بمثابة إنسان بورجوازي « ليست الحياة في الدولة إلا مظهراً استثناءً مؤقتاً يتعارض مع الجوهر والقاعدة ».
والحق أن البورجوازي، تماماً مثل اليهودي، لا يبقى في الحياة السياسية إلا بواسطة السفسطة والمغالطة، تماماً مثلما لا يبقى المواطن فيها إلا بسفسطة يهودية أو بورجوازية. ولكن هذه السفسطة ليست شخصية. إنها سفسطة الدولة السياسية نفسها. إن الفرق بين الإنسان الديني والمواطن إنما هو الفرق بين التاجر والمواطن، بين المُياوم والمواطن، بين الملاك العقاري والمواطن، بين الفرد الحيّ والمواطن. إن التناقض الذي يقوم به الإنسان الديني والإنسان السياسي هو التناقض نفسه الذي يقوم بين البورجوازي والمواطن، والذي يقوم بين عنصر المجتمع البورجوازي وجلد الأسد السياسي الذي يلبسه.
هذا التناقض الدنيوي الذي تنحصر المسألة اليهودية فيه في آخر المطاف، يعني علاقة الدولة السياسية بشروط الواقعية، سواء أكانت هذه الشروط عناصر مادية كالملكية الخاصة، أو عناصر عقلية كالثقافة والدين. هذا التناقض بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة. هذا الانشقاق بين الدولة السياسية والمجتمع البورجوازي، أقول: هذه التناقضات الدنيوية يتركها «باور» قائمة، على حين أنه يهاجم صيغتها الدينية. «إن أساس المجتمع البورجوازي، على وجه التدقيق، يعني الحاجة التي تضمن للمجتمع البورجوازي وجوده وتؤمن له ضرورته، هذا الأساس هو الذي يُعرِّض وجود المجتمع البورجوازي لأخطار متواصلة، ويُذكي فيه عنصراً غير موثوق، وينتج هذا الخليط المتواصل والمتغير دوماً، هذا الخليط من الفقر والغنى، والشقاء والازدهار وبكلمة واحدة: التغيُّر. (ص Cool.
ونستطيع أن نقارن مجموع الفصل « المجتمع البورجوازي » (ص 8–9)، المبني وفقاً للمبادئ الأساسية لفلسفة الحق عند هيغل. حيث يتم الاعتراف بضرورة المجتمع البورجوازي، كمعارض للدولة السياسية، لكي يتم الاعتراف بضرورة الدولة السياسية.
إن التحرّر السياسي يشكل في الخلاصة تقدماً عظيماً. إنه والحق يُقال، ليس آخر شكل للتحرّر البشري، ولكنه آخر شكل للتحرّر البشري في أُطر النظام الاجتماعي الحالي، ولنتفاهم جيداً: نحن نتحدث هنا عن التحرّر الواقعي، عن التحرّر العملي.
يتحرّر الإنسان سياسياً من الدين، بإخراجه من الحقل العام إلى الحقل الخاص، فالدين لا يبقى هو روح الدولة وحيث يتصرف الإنسان. وإن كان يعمل بصورة خاصة ومحدودة وفي دائرة خاصة ككائن اجتماعي. وبالاشتراك مع أناس آخرين.
وإنما يكون قد أصبح الدين روح المجتمع البورجوازي ومجال الأنانية وروح حرب الجميع ضد الجميع. إنه لم يَبْق جوهر الجماعة، وإنما جوهر التميز. لقد أصبح الدين ما كان في الأصل: إنه يعبِّر عن أن الإنسان هو مفصول عن متّحده، عن ذاته، وعن الناس الآخرين. إنه لم يّعُدْ إلا التأكيد المجرّد للخطأ الخاص، والهوى الشخصي، والاعتباطية، فالتشظي للدين، في أميركة الشمالية مثلاً، يمنحه الشكل الخارجي لقضية خاصة على وجه الدقة، لقد وُضِعَتْ في عداد المنافع الخاصة ونُبِذَتْ من المُتَحد المنظور إليه بوصفه مُتَحداً. ولكن يجب أن لا يتطرق إلينا الوهم في موضوع حد التحرّر السياسي.
إن إنشطار الإنسان إلى إنسان عام وإنسان خاص، وانتقال الدين من الدولة إلى المجتمع البورجوازي، ليسا مرحلة، وإنما هما اكتمال التحرر السياسي الذي لا يلغى، ولا يحاول أن يلغي التدين الواقعي عند الإنسان.
إن تفكك الإنسان إلى يهودي ومواطن، إلى بروتستانتي ومواطن، إلى رجل دين ومواطن، هذا التفكك ليس افتراءً على النظام السياسي ولا محاولة للتملص من التحرّر السياسي، فذلك هو التحرّر السياسي نفسه، والطريقة السياسية للتحرّر من الدين، وبديهي في عهود تؤكد فيها الدولة السياسية بوصفها كذلك، ولادتها العنيفة من المجتمع البورجوازي، وحيث الانعتاق الشخصي البشري يحاول أن يتم في شكل انعتاق شخصي سياسي، أن الدولة تستطيع ويجب عليها أن تمضي إلى حد إلغاء الدين، إلى محقه وإنما فقط كما تستطيع أن تتوصل إلى إلغاء الملكية الخاصة في حدها الأعلى، فتصل إلى المصادرة، إلى الضريبة التصاعدية، إلى إلغاء الحياة، إلى المقصلة. وفي اللحظات التي تعي فيها الدولة ذاتها بصورة خاصة، تحاول الحياة السياسية خنق شروطها الأولية، أي المجتمع البورجوازي وعناصره، لكي تبني نفسها كحياة اجتماعية، حقيقية ومطلقة للإنسان. ولكنها لا تستطيع بلوغ هذه الغاية، إلا عبر التناقض العنيف لشروط وجودها الخاصة، وبإعلانها الثورة، في حالة دائمة، وهكذا فالمأساة السياسية تنتهي بإعادة الدين، والملكية الخاصة، وجميع عناصر المجتمع البورجوازي، تماماً كما تنتهي الحرب بالسلم.



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المَسْــألة اليَهُوديـّــة,ج1
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المَسْــألة اليَهُوديـّــة,ج2

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى التحكم الآلي والإلكترونيات :: المنتديات العلمية العامة :: نظريات علمية وعلماء-
انتقل الى: